فصل: النوع الثالث: في التجريد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع الثالث: في التجريد:

وهذا اسم كنت سمعته، فقال القائل: التجريد في الكلام حسن، ثم سكت، فسألته عن حقيقته، فقال: كذا سمعت، ولم يزد شيئاً، فأنعمت حينئذ نظري في هذا النوع من الكلام، فألقي في روعي أنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، وكان الذي وقع لي صواباً، ثم مضى على ذلك برهة من الزمان، ووصل إلى ما ذكره أبو علي الفارسي رحمه الله تعالى وقد أوردته هاهنا، وذكرت ما أتيت به من ذات خاطري من زيادة لم يذكرها، وستقف أيها المتأمل على كلامه وكلامي.
فأما حد التجريد فإنه إخلاص الخطاب لغيرك، وأنت تريد به نفسك، لا المخاطب نفسه، لأن أصله في وضع اللغة من جردت السيف، إذا نزعته من غمده، وجردت فلاناً، إذا نزعت ثيابه ومن هاهنا قال لا مدٌ ولا تجريد وذلك في النهي عند إقامة الحد أن يمد صاحبه على الأرض وأن تجرد عنه ثيابه، وقد نقل هذا المعنى إلى نوع من أنواع علم البيان.
وقد تأملته فوجدت له فائدتين: إحداهما أبلغ من الأخرى: فالأولى طلب التوسع في الكلام، فإنه إذا كان ظاهره خطاباً لغيرك وباطنه خطاباً لنفسك فإن ذلك من باب التوسع، وأظن أنه شيء اختصت به اللغة العربية دون غيرها من اللغات.
والفائدة الثانية: وهي الأبلغ وذاك أنه يتمكن المخاطب من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه، إذ يكون مخاطباً بها غيره، ليكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقوله غير محجور عليه.
وعلى هذا فإن التجريد ينقسم قسمين: أحدهما: تجريد محض، والآخر: تجريد غير محض.
فالأول: وهو المحض أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك، وذلك كقول بعض المتأخرين وهو الشاعر المعروف بالحيص بيص في مطلع قصيدة له:
إلام يراك المجد في زي شاعر ** وقد نحلت شوقاً فروع المنابر

كتمت بعيب الشعر حلماً وحكمة ** ببعضهما ينقاد صعب المفاخر

أما وأبيك الخير إنك فارس ال ** مقال ومحيي الدراسات الغوابر

وإنك أعييت المسامع والنهى ** بقولك عما في بطون الدفاتر

فهذا من محاسن التجريد، ألا ترى أنه أجرى الخطاب إلى غيره وهو يريد نفسه، كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة، وعد ما عده من الفضائل التائهة، وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض.
وأما ما قصد به التوسع خاصة فكقول الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت ** مزارك من ريا وشعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ** وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا

وقد ورد بعد هذين البيتين ما يدل إلى أن المراد بالتجريد فيهما التوسع، لأنه قال:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ** على كبدي من خشية أن تصدعا

بنفسي تلك الأرض ما لأطيب الربا ** وما أحسن المصطاف والمتربعا

فانتقل من الخطاب التجريدي إلى خطاب النفس، ولو استمر على الحالة الأولى لما قضي عليه بالتوسع، وإنما كان يقضى عليه بالتجريد البليغ الذي هو الطرف الآخر، ويتأول له بأن غرضه من خطاب غيره أن ينفي عن نفسه سمعة الهوى ومعرة العشق، لما في ذلك من الشهرة والغضاضة، لكن قد زال هذا التأويل بانتقاله عن التجريد أولاً إلى خطاب النفس.
وإلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولامال ** فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

واجز الأمير الذي نعماه فاجئة ** بغير قول ونعمى القوم أقوال

وهذان البيتان من مطلع قصيدة يمدح بها فاتكاً الإخشيدي بمصر، وكان وصله بصلة سنية من نفقة وكسوة قبل أن يمدحه، ثم مدحه بعد ذلك بهذه القصيدة وهي من غرر شعره، وقد بنى مطلعها على المعنى المشار إليه من ابتداء فاتك إياه بالصلة قبل المديح، وليس في التجريد المذكور في هذين البيتين ما يدل على وصف النفس ولا على تزكيتها بالمديح، كما ورد في الأبيات الرائية المتقدم ذكرها، وإنما هو توسع لاغير.
وأما القسم الثاني: وهو غير المحض فإنه خطاب لنفسك لا لغيرك، ولئن كان بين النفس والبدن فرق إلا أنهما كأنهما شيء واحد، لعلاقة أحدهما بالآخر.
وبين هذا القسم والذي قبله فرق ظاهر، وذاك أولى بأن يسمى تجريداً، لأن التجريد لائق به، وهذا هو نصف تجريد؛ لأنك لم تجرد؛ لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئاً، وإنماخاطبت نفسك بنفسك، كأنك فصلتها عنك وهي منك.
فمما جاء منه قول عمرو بن الإطنابة:
أقول لها وقد جشأت وجاشت ** رويدك تحمدي أوتستريحي

وكذلك قول الآخر:
أقول للنفس تأساء وتعزية ** إحدى يدي أصابتني ولم ترد

وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطاباً لغيرك كالأول، وإنما المخاطب هو المخاطب بعينه، وليس ثم شيء خارج عنه.
وأما الذي ذكره أبو علي الفارسي رحمه الله فإنه قال: إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامناً فيه كأنه حقيقته ومحصوله، فيخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجرداً من الإنسان كأنه غيره، وهو هو بعينه، نحو قولهم: لئن لقيت فلاناً لتلقين به الأسد، ولئن سألته لتسألن منه البحر، وهو عينه الأسد والبحر، لا أن هناك شيئاً منفصلاً عنه أو متميزاً منه.
ثم قال: وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه حتى كأنه يقاول غيره كما قال الأعشى:
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

وهوالرجل نفسه لا غيره.
هذا خلاصة ما ذكره أبو علي رحمه الله.
والذي عندي فيه أنه أصاب في الثاني، ولم يصب في الأول، لأن الثاني هو التجريد، ألا ترى أن الأعشى جرد الخطاب عن نفسه وهو يريدها، وأما الأول وهو قوله لئن لقيت فلاناً لتلقين به الأسد، ولئن سألته لتسألن منه البحر فإن هذا تشبيه مضمر الأداة، إذ يحسن تقدير أداء التشبيه فيه، وبيان ذلك أنك تقول: لئن لقيت فلاناً لتلقين منه كالأسد، ولئن سألته لتسألن منه كالبحر، وليس هذا بتجريد، لأن حقيقة التجريد غير موجودة فيه، وإنما هو تشبيه مضمر الأداة، ألا ترى أن المذكور هو كالأسد، وهو كالبحر، وليس ثم شيء مجرد عنه، كما تقدم في الأبيات الشعرية.
ويبطل على أبي علي قوله أيضاً من وجه آخر، وذاك أنه قال إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامناً فيه كأنه حقيقته ومحصوله، فخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجرداً من الإنسان كأنه غيره، وهو هو كالمثال الذي مثله في تشبيهه بالأسد وتشبيهه بالبحر، وهذا ينتقض بقولنا: لئن رأيت الأسد لترين منه هضبة، ولئن لقيته لتلقين منه الموت، فإن الصورة التي أوردها في الإنسان وزعم أن العرب تعتقد أن ذلك معنى كامن فيه قد أوردنا مثلها في الأسد، فتخصيصه ذلك بالإنسان باطل، وكلا الصورتين ليس بتجريد، وإنما هو تشبيه مضمر الأداة، وقد سبق القول بأن التجريد هو أن تطلق على غيرك ولا يكون هو المراد، وإنما المراد نفسك، وهذا لا يوجد في هذا المثال المضمر الأداة، بل المخاطب هو هو لا غيره، فلا يطلق عليه إذاً اسم التجريد، لأنه خارج عن حقيقته، ومناف لموضوعه، فإذا قال القائل لئن لقيته لتلقين به كالأسد، ولئن سألته لتسألن منه كالبحر، لم يجرد عن المقول عنه شيئاً، وإنما شبهه تارة بالأسد في شجاعته وتارة بالبحر في سخائه.
وما أعلم كيف ذهب هذا على مثل أبي علي رحمه الله حتى خلطه بالتجريد وأجراه مجراه.
وأما قوله: إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامناً فيه كأنه حقيقته ومحصوله فأقول: وغير العرب أيضاً تعتقد ذلك: فإن عنى بالمعنى الكامن معنى الإنسانية الذي هو الاستعداد للعلوم والصنائع، فما هذا من الشيء الغريب الخفي الذي علمته العرب خاصة وانفرد باستخراجه أبو علي رحمه الله، وإن عني بالمعنى الكامن ما فيه من الأخلاق كالشجاعة والسخاء في المثال الذي ذكره حتى يشبه بالأسد تارة وبالبحر أخرى فليس الإنسان مختصاً بهذا المعنى الكامن دون غيره من الحيوانات، بل الأسد فيه من معنى الشجاعة ما ليس في الإنسان ولهذا إذا بولغ في وصف الإنسان بالشجاعة شبه بالأسد، وكذلك في بعض الحيوانات من السخاء ما ليس في الإنسان، ومن أمثال: أكرم من ديك، لأنه إذا ظفر بحبة من الحنظة أخذها في منقاره وطاف بها على الدجاج حتى يضعها في منقار واحدة منهن، فالأخلاق إذاً مشتركةٌ بين الإنسان وبين غيره من الحيوانات، غير أن الإنسان يجتمع فيه ما تفرق في كثير منها.
وما أعلم ما أراد أبو علي رحمه الله بقوله إن في الإنسان معنى كامناً فيه كأنه حقيقته ومحصوله إلا أن يكون أحد هذين القسمين اللذين أشرت إليهما.
على أن القسم الواحد الذي هو خلق الشجاعة والسخاء وغيره من الأخلاق ليس عبارة عن حقيقة الإنسان، إذ لا يقال في حده: حيوان شجاع، ولا سخي، بل يقال: حيوان ناطق، فالنطق الذي هو الاستعداد للعلوم والصنائع هو حقيقة الإنسان، فبطل إذاً قول أبي علي رحمه الله تعالى في تمثيله حقيقة الإنسان بالشجاعة والسخاء.
فالخطأ توجه في كلامه من وجهين: أحدهما: أنه جعل حقيقة الإنسان عبارةً عن خلقه، والآخر: أنه أدخل في التجريد ما ليس منه.
وهذا القدر كاف في هذا الموضع فليتأمل.

.النوع الرابع: في الالتفات:

وهذا النوع ما يليه خلاصة علم البيان التي حولها يدندن، وإليها تستند البلاغة، وعنها يعنعن، وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله، فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة، لأنه ينتقل فيه عن صيغة، كالانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب إلى حاضر. أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماض، أو غير ذلك مما يأتي ذكره مفصلا، ويسمى أيضاً شجاعة العربية وإنما سمي بذلك لأن الشجاعة هي الإقدام، وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورد ما لا يتورده سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام، فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات.
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

.القسم الأول: في الرجوع من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة:

اعلم أن عامة المنتمين إلى هذا الفن إذا سئلوا عن الانتقال عن الغيبة إلى الخطاب وعن الخطاب إلى الغيبة، قالوا: كذلك كانت عادة العرب في أساليب كلامها، وهذا القول هو عكاز العميان، كما يقال، ونحن إنما نسأل عن السبب الذي قصدت العرب ذلك من أجله.
وقال الزمخشري رحمه الله: إن الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنما يستعمل للتفنن في الكلام، والانتقال من أسلوب إلى أسلوب، تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه.
وليس الأمر كما ذكره، لأن الانتقال في الكلام من أسلوب إلى أسلوب إذا لم يكن إلا تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاء إليه، فإن ذلك دليل على أن السامع يمل من أسلوب واحد فينتقل إلى غيره ليجد نشاطاً للاستماع، وهذا قدح في الكلام، لا وصف له، لأنه لو كان حسنا لما مل، ولو سلمنا إلى الزمخشري ما ذهب إليه لكان إنما يوجد ذلك في الكلام المطول، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك، لأنه قد ورد الانتقال من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ويكون مجموع الجانبين مما يبلغ عشرة ألفاظ، أو أقل من ذلك، ومفهوم قول الزمخشري في الانتقال من أسلوب إلى أسلوب إنما يستعمل قصداً للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه، لا قصداً لاستعمال الأحسن، وعلى هذا فإذا وجدنا كلاما قد استعمل في جميعه الإيجاز ولم ينتقل عنه، أو استعمل فيه جميعه الإطناب ولم ينتقل عنه، وكان كلا الطرفين واقعا في موقعه، قلنا هذا ليس بحسن، إذ لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوب، وهذا القول فيه ما فيه، وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشري مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة.
والذي عندي في ذلك أن الانتقال من الخطاب إلى الغيبة أو من الغيبة إلى الخطاب، لا يكون إلا لفائدة اقتضته، وتلك لفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، غير أنها لا تحد بحد، ولا تضبط بضابط، لكن يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها غيرها، فإنا قد رأينا الانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب، ثم رأينا ذلك بعينه وهو ضد الأول قد استعمل في الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فعلمنا حينئذ أن الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجري على وتيرة واحدة، وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود، وذلك المعنى يتشعب شعبا كثيرة لا تنحصر، وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه وسأوضح ذلك في ضرب من الأمثلة الآتي ذكرها.
فأما الرجوع من الغيبة إلى الخطاب فكقوله تعالى في سورة الفاتحة: {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب وبما يختص الكلام من الفوائد قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} بعد قوله: {الحمد لله رب العالمين} فإنه إنما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب لأن الحمد دون العبادة، ألا تراك تحمد نظيرك ولا تعبده، فلما كانت الحال كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال: {الحمد لله} ولم يقل الحمد لك ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى الطاعات قال: {إياك نعبد} فخاطب بالعبادة إصراحا بها وتقربا منه عز اسمه بالانتهاء إلى محدود منها، وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة، فقال: {صراط الذين أنعمت عليهم} فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة، ثم قال: {غير المغضوب عليهم} عطفاً على الأول، لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب، فأسند النعمة إليه لفظا، وزوى عنه لفظ الغضب تحننا ولطفا، فانظر إلى هذا الموضع، وتناسب هذه المعاني الشريفة التي الأقدام لا تكاد تطؤها، والأفهام مع قربها صافحة عنها، وهذه السورة قد انتقل في أولها من الغيبة إلى الخطاب، لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرها من الخطاب إلى الغيبة، لتلك العلة بعينها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضا، لأن مخاطبة الرب تبارك وتعالى بإسناد النعمة إليه تعظيم لخطابه، وكذلك ترك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيم لخطابه، فانبغى أن يكون صاحب هذا الفن من الفصاحة والبلاغة عالما بوضع أنواعه في مواضعها على اشتباهها.
ومن هذا الضرب قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا} وإنما قيل: {لقد جئتم} وهو خطاب بعد قوله: {وقالوا} وهو خطاب للغائب لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل عليهم بالجراءة على الله تعالى والتعرض لسخطه، وتنبيه لهم على عظم ما قالوه، كأنه يخاطب قوما حاضرين بين يديه منكرا عليهم وموبخا لهم.
ومما جاء من الالتفات مرارا على قصر متنه، وتقارب طرفيه قوله تعالى أول سورة بني إسرائيل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} فقال أولا: {سبحان الذي أسرى} بلفظ الواحد ثم قال: {الذي باركنا} بلفظ الجمع، ثم قال: {إنه هو السميع البصير} وهو خطاب غائب، ولو جاء الكلام على مساق الأول لكان: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير، وهذا جميعه معطوفا على أسرى، فلما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه في الانتقال من صيغة إلى صيغة كان ذلك اتساعا وتفننا في أساليب الكلام، ولمقصد آخر معنوي هو أعلى وأبلغ.
وسأذكر ما سنح لي فيه فأقول: لما بدأ الكلام بسبحان ردفه بقوله الذي أسرى، إذ لا يجوز أن يقال الذي أسرينا، فلما جاء بلفظ الواحد والله تعالى أعظم العظماء، وهو أولى بخطاب العظيم في نفسه الذي هو بلفظ الجمع، استدرك الأول بالثاني، فقال: {باركنا} ثم قال: {لنريه من آياتنا} فجاء بذلك على نسق: {باركنا} ثم قال: {إنه هو} عطفاً على أسرى، وذلك موضع متوسط الصفة، لأن السمع والبصر صفتان شاركه فيهما غيره، وتلك حال متوسطة، فخرج بهما عن خطاب العظيم، في نفسه إلى خطاب نائب، فانظر إلى هذه الالتفاتات المترادفة في هذه الآية الواحدة التي جاءت لمعان اختصت بها، يعرفها من عرفها ويجهلها من يجهلها.
ومما ينخرط في هذا السلك الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس، كقول تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} وهذا رجوع من الغيبة إلى خطاب النفس، فإنه قال: {وزينا} بعد قوله: {ثم استوى} وقوله: {فقضاهن} {وأوحى} والفائدة في ذلك أن طائفة من الناس غير المتشرعين يعتقدون أن النجوم ليست في سماء الدنيا، وأنها ليست حفظا ولا رجوما، فلما صار الكلام إلى هاهنا عدل به عن خطاب الغائب إلى خطاب النفس، لأنه مهم من مهمات الاعتقاد، وفيه تكذيب للفرقة المكذبة المعتقدة بطلانه، وفي خلاف هذا الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الغيبة.
ومما ينخرط في هذا السلك أيضاً الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الجماعة، كقوله تعالى: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} وإنما صرف الكلام عن خطاب نفسه إلى خطابهم لأنه أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة، وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم، لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: {وما لي لا أعبد الذي فطرني} مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، ألا ترى إلى قوله: {وإليه ترجعون} ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال: {إني آمنت بربكم فاسمعون} فانظر أيها المتأمل إلى هذه النكت الدقيقة التي تمر عليها في آيات القرآن الكريم وأنت تظن أنك فهمت فحواها واستنبطت رموزها.
وعلى هذا الأسلوب يجري الحكم في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد، كقوله تعالى: {حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنك كنا منزلين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم} والفائده هاهنا في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد تخصيص النبي بالذكر، والإشارة بأن إنزال الكتاب إنما هو إليه، وإن لم يكن ذلك صريحا، لكن مفهوم الكلام يدل عليه.
وإذا تأملت مطاوي القرآن الكريم وجدت فيه من هذا وأمثاله أشياء كثيرة، وإنما اقتصرنا على هذه الأمثلة المختصرة ليقاس عليها ما يجري على أسلوبها.
وقد ورد في فصيح الشعر شيء من ذلك، كقول أبي تمام:
وركب يساقون الركاب زجاجة ** من السير لم تقصد لها كف قاطب

فقد أكلوا منها الغوارب بالسرى ** وصارت لهم أشباحهم كالغوارب

يصرف مسراها جذيل مشارق ** إذا آبه هم عذيق مغارب

يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر ** وبالعرمس الوجناء غرة آئب

كأن بها ضغنا على كل جانب ** من الأرض أو شوقا إلى كل جانب

إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد ** تقطع ما بيني وبين النوائب

هنالك تلقى الجود من حيث قطعت ** تمائمه والمجد مرخى الذوائب

ألا ترى أنه قال في الأول يصرف مسراها مخاطبة للغائب، ثم قال بعد ذلك: إذا العيس لاقت بي مخاطبا نفسه، وهي هذا من الفائدة أنه لما صار إلى مشافهة للممدوح والتصريح باسمه خاطب عند ذلك نفسه مبشرا لها بالبعد عن المكروه والقرب من المحبوب، ثم جاء بالبيت الذي يليه معدولا به عن خطاب نفسه إلى خطاب غيره، وهو أيضاً خطاب لحاضر، فقال هنالك تلقى الجود والفائدة بذلك أنه يخبر غيره بما شهده، كأنه يصف له جود الممدوح وما لاقاه منه، إشادة بذكره، وتنويها باسمه، وحملا لغيره على قصده، وفي صفته جود الممدوح بتلك الصفة الغريبة البليغة، وهي قوله حيث قطعت تمائمه ما يقتضي له الرجوع إلى خطاب الحاضر والمراد بذلك أن محل الممدوح هو مألف الجود ومنشؤه ووطنه، وقد يراد به معنى آخر وهو أن هذا الجود قد أمن عليه الآفات العارضة لغيره من المن والمطل والاعتذار وغير ذلك إذ التمائم لا تقطع إلا عمن أمنت عليه المخاوف.
على هذا النهج ورد قول أبي الطيب المتنبي في قصيدة يمدح به ابن العميد في النوروز، ومن عادة الفرس في ذلك اليوم حمل الهدايا إلى ملوكهم، فقال في آخر القصيدة:
كثر الفكر كيف نهدي كما أه ** دت إلى ربها المليك عباده

والذي عندنا من المال والخيل ** فمنه هباته وقياده

فبعثنا بأربعين مهارا ** كل مهر يدانه إنشاده

عدد عشته يرى الجسم فيه ** أربا لا يراه فيما يزاده

فارتبطها فإن قلباً نماها ** مربط تسبق الجياد جياده

وهذا من إحسان أبي الطيب المعروف، وهو رجوع عن خطاب الغائب إلى الحاضر واحتج أبو الطيب عن تخصيص أبياته بالأربعين دون غيرها من العدد بحجة غريبة، وهي أنه جعلها كعدد السنين التي يرى الإنسان فيها من القوة والشباب وقضاء الأوطار ما لا يراه في الزيادة عليها، فاعتذر بألطف اعتذار في أنه لم يزد القصيدة على هذه العدة وهذا حسن غريب.
وأما الرجوع من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} فإنه إنما صرف الكلام هاهنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدة، وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهم، ولو قال: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة فرحتم بها، وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية، لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة، وليس ذلك بخاف عن نقدة الكلام.
ومما ينخرط في هذا السلك قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون} الأصل في تقطعوا تقطعتم، عطفاً على الأول، إلا أنه صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى قوم آخرين، ويقبح عندهم ما فعلوه، ويقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى، فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتباينهم، ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو مجازيهم على ما فعلوا.
ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى: {يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} فإنه إنما قال: {فآمنوا بالله ورسوله} ولم يقل فآمنوا بالله وبي عطفاً على قوله إني رسول الله إليكم لكي تجري عليه الصفات التي أجريت عليه، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وبكلماته كائنا من كان أنا أو غيري، إظهارا للنصفة وبعدا من التعصب لنفسه، فقدر أولاً في صدر الآية إني رسول الله إلى الناس، ثم أخرج كلامه من الخطاب إلى معرض الغيبة لغرضين الأول منهما إجراء تلك الصفات عليه والثاني الخروج من تهمة التعصب لنفسه.